فصل: من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة المزمل فِيها تِسْعِ آياتٍ:
الْآيةُ الْأُولى قوله تعالى: {يأيُّها الْمُزّمِّلُ قُمْ اللّيْل إلّا قلِيلا} فِيها مع الّتِي تلِيها سِتُّ مسائِل:
المسألة الْأُولى:
قوله تعالى: {يأيُّها الْمُزّمِّلُ} هُو الْمُلْتفُّ، بِإِضافةِ الْفِعْلِ إلى الْفاعِلِ، وكُلُّ شيْءٍ لُفِّف فِي شيْءٍ فقدْ زُمِّل بِهِ؛ ومِنْهُ قِيل لِلِفافةِ الرّاوِيةُ والْقِرْبةِ زِمالٌ.
وفِي الْحديث فِي قتْلى أُحُدٍ: «زمِّلُوهُمْ بِثِيابِهِمْ ودِمائِهِمْ» أيْ لفِّفُوهُمْ، يُقال تزمّل يتزمّلُ؛ فإِذا أُدْغِمتْ التّاءُ قُلْت: ازّمّل بِتشْدِيديْنِ.
واخْتُلِف فِي تأْوِيلِهِ؛ فمِنْهُمْ منْ حملهُ على حقِيقتِهِ، قِيل لهُ: يا منْ تلفّف فِي ثِيابِهِ أوْ فِي قطِيفتِهِ قُمْ؛ قالهُ إبْراهِيمُ وقتادةُ.
ومِنْهُمْ منْ حملهُ على الْمجازِ كأنّهُ قِيل لهُ: يا منْ تزمّل بِالنُّبُوّةِ.
روى عِكْرِمةُ أنّهُ قال: معْناهُ يا منْ تزمّل، أيْ زملْت هذا الْأمْر فقُمْ بِهِ.
فأمّا الْعُدُولُ عنْ الْحقِيقةِ إلى الْمجازِ فلا يُحْتاجُ إليْهِ لاسيما وفِيهِ خِلافُ الظّاهِرِ؛ وإِذا تعاضدتْ الْحقِيقةُ والظّاهِرُ لمْ يجُزْ الْعُدُولُ عنْهُ.
وأمّا قول عِكْرِمة: إنّك زملْت هذا الْأمْر فقُمْ بِهِ؛ وإِنّما يسُوغُ هذا التّفْسِيرُ لوْ كانتْ الْمِيمُ مفْتُوحة مُشدّدة بِصِيغةِ الْمفْعُولِ الّذِي لمْ يُسمّ فاعِلُهُ، وأمّا وهُو بِلفْظِ الْفاعِلِ فهُو باطِلٌ.
وأمّا قول منْ قال: إنّهُ زُمِّل بِالقرآن فهُو صحِيحٌ فِي الْمجازِ، لكِنّهُ كما قدّمْنا لا يُحْتاجُ إليْهِ، ويشْهدُ لِمعْناهُ حديث يُؤْثرُ لمْ يصِحّ، وهُو قولهُ: «إنّ اللّه قدْ زادكُمْ صلاة إلى صلاتِكُمْ هذِهِ وهِي الْوِتْرُ، فأوْتِرُوا يا أهْل القرآن».
المسألة الثّانِيةُ:
فِي الْمعْنى وهُو الْأوّلُ فِي الْقول قولهُ: {قُمْ} هُو فِعْلٌ لا يتعدّى ولكِنّهُ على أصْلِ الْأفْعالِ الْقاصِرةِ فِي تعدِّيهِ إلى الظُّرُوفِ، فأمّا ظرْفُ الزّمانِ فسائِغٌ فِيهِ، وارِدٌ كثِيرا بِهِ يُقال: قام اللّيْل، وصام النّهار، فيصِحُّ ويُفِيدُ.
وأمّا ظرْفُ الْمكانِ فلا يصِلُ إليْهِ إلّا بِواسِطةٍ، لا تقول: قُمْت الدّار حتّى تقول وسط الدّارِ وخارِج الدّارِ.
وقدْ قِيل قُمْ هاهُنا بِمعْنى صلِّ؛ عبّر بِهِ عنْهُ، واسْتُعِير لهُ عُرْفا فِيهِ بِكثْرةِ الِاسْتِعْمالِ.
المسألة الثّالِثةُ:
قوله: {اللّيْل} فخصّهُ بِالذِّكْرِ.
واخْتُلِف فِي وجْهِ تخْصِيصِهِ؛ فمِنْهُمْ منْ قال: خصّهُ بِالذِّكْرِ لِأنّهُ أشقُّ.
وسيأْتِي بيانُهُ وقِيل: خصّهُ بِالذِّكْرِ لِأنّهُ كان فرْضا.
فِي صحِيحِ مُسْلِمٍ وغيْرِهِ عنْ عائِشة واللّفْظُ لِمُسْلِمٍ: قال سعْدُ بْنُ هِشامِ بْنِ عامِرٍ: «فانْطلقْت إلى عائِشة.
فقُلْت: يا أُمّ الْمُؤْمِنِين؛ أنْبِئِينِي عنْ خُلُقِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قالتْ ألسْت تقرأ القرآن؟ قُلْت: بلى.
قالتْ: فإِنّ خُلُق النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كان القرآن.
قال: فهممْت أنْ أقُوم ولا أسْألُ أحدا عنْ شيْءٍ حتّى أمُوت.
ثُمّ قُلْت: أنْبِئِينِي عنْ قِيامِ رسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
فقالتْ: ألسْت تقرأ: {يأيُّها الْمُزّمِّلُ}، قُلْت: بلى.
قالتْ: فإِنّ اللّه افْترض قِيام اللّيْلِ فِي أوّلِ هذِهِ السُّورةِ، فقام النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأصْحابُهُ حوْلا، وأمْسك اللّهُ خاتِمتها اثْنيْ عشر شهْرا فِي السّماءِ، حتّى أنْزل اللّهُ فِي آخِرِ هذِهِ السُّورةِ التّخْفِيف، فصار قِيامُ اللّيْلِ تطوُّعا بعْد فرِيضتِهِ»
وذكر الْحديث.
المسألة الرّابِعةُ:
إنّ اللّه سبحانهُ خلق الْمكان والزّمان سعة لِلْإِنْسانِ ومجالا لِلْعملِ كما تقدّم فِي قولهِ: {وهُو الّذِي جعل اللّيْل والنّهار خِلْفة لِمنْ أراد أنْ يذّكّر أوْ أراد شُكُورا}، وكما أنّ الْعمل فِي الْآدمِيِّ أصْلٌ خِلْقِيٌّ، فكذلِك الزّمانُ لِلسِّياحةِ وجْهٌ خِلْقِيٌّ أيْضا، لكِنّ الْحِكْمة فِيهِ أنْ يقْدُم لِلدّارِ الْأُخْرى، ويعْتمِد فِيهِ قبْل الْعملِ ما هُو بِهِ أوْلى وأحْرى، ولوْ عُمْرُهُ كُلُّهُ بِالشُّكْرِ والذِّكْرِ ورُزِق على ذلِك قُدْرة ما كان قضاء لِحقِّ النِّعْمةِ، فوضعهُ اللّهُ أوْقاتا لِلْعِبادةِ، وأوْقاتا لِلْعادةِ.
فالنّهارُ خمْسةُ أقْسامٍ: الْأوّلُ: مِنْ الصُّبْحِ إلى طُلُوعِ الشّمْسِ، محِلٌّ لِصلاةِ الصُّبْحِ، وهُو فُسْحةٌ لِلْفرِيضةِ، فإِنْ أُدِّيتْ كانتْ فِيهِ محِلّا لِلذِّكْرِ، وكان رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إذا صلّى الصُّبْح جلس فِي مُصلّاهُ حتّى تطْلُع الشّمْسُ حِسّا، فإِذا طلعتْ قام إلى وظِيفتِهِ الْآدمِيّةِ حتّى تبْيضّ الشّمْسُ، فيكُون هُنالِك عِبادة نفْلِيّة يمْتدُّ وقْتُها إلى أنْ تجِد الْفِصالُ حرّ الشّمْسِ فِي الْأرْضِ، لِقول النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «صلاةُ الْأوّابِين إذا رمِضتْ الْفِصالُ».
وهُو أيْضا خِلْفةٌ لِمنْ نام عنْ قِيامِ اللّيْلِ، لِقولهِ عليْهِ الصّلاةُ والسّلامُ: «منْ فاتهُ حِزْبُهُ مِنْ اللّيْلِ فصلّاهُ ما بيْن صلاةِ الصُّبْحِ إلى صلاةِ الظُّهْرِ فكأنّهُ لمْ يفُتْهُ وهُو مغْمُورٌ بِحالِ الْمعاشِ».
قال الْإِمامُ: كُنّا بِثغْرِ الْإِسْكنْدرِيّة مُرابِطِين أيّاما، وكان فِي أصْحابِنا رجُلٌ حدّادٌ، وكان يُصلِّي معنا الصُّبْح، ويذْكُرُ اللّه إلى طُلُوعِ الشّمْسِ، ثُمّ يحْضُر حلْقة الذِّكْرِ، ثُمّ يقُومُ إلى حِرْفتِهِ، حتّى إذا سمِع النِّداء بِالظُّهْرِ رمى بِالْمِرْزبّةِ فِي أثْناءِ الْعملِ وتركهُ، وأقْبل على الطّهارةِ، وجاء الْمسْجِد فصلّى وأقام فِي صلاةٍ أوْ ذِكْرٍ حتّى يُصلِّي الْعصْر، ثُمّ ينْصرِف إلى منْزِلِهِ فِي معاشِهِ، حتّى إذا غابتْ الشّمْسُ جاء فصلّى الْمغْرِب، ثُمّ عاد إلى فِطْرِهِ، ثُمّ يأْتِي الْمسْجِد فيرْكعُ أوْ يسْمعُ ما يُقال مِنْ الْعِلْمِ، حتّى إذا صلّى الْعِشاء الْآخِرة انْصرف إلى منْزِلِهِ.
وهُو محلٌّ لِلْقائِلةِ، وهِي نوْمُ النّهارِ الْمُعيّنِ على قِيامِ اللّيْلِ فِي الصّلاةِ أوْ الْعِلْمِ.
فإِذا زالتْ الشّمْسُ حانتْ صلاةُ الظُّهْرِ، فإِذا صار ظِلُّ كُلِّ شيْءٍ مِثْلهُ حانتْ صلاةُ الْعصْرِ، فإِذا غربتْ الشّمْسُ زال النّهارُ بِوظائِفِهِ ونوافِلِهِ.
ثُمّ يدْخُلُ اللّيْلُ فتكُونُ صلاةُ الْمغْرِبِ، وكان ما بعْدها وقْتا لِلتّطوُّعِ، يُقال إنّهُ الْمُرادُ بِقولهِ: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عنْ الْمضاجِعِ} وإِنّهُ الْمُرادُ أيْضا بِقولهِ: {إنّ ناشِئة اللّيْلِ هِي أشدُّ وطْئا وأقْومُ قِيلا} ثُمّ يغِيبُ الشّفقُ فتدْخُلُ الْعِشاءُ الْآخِرةُ، ويمْتدُّ وقْتُها إلى نِصْفِ اللّيْلِ أوْ ثُلُثِهِ، وهُو محلُّ النّوْمِ إذا صلّى الْعِشاء الْآخِرة إلى نِصْفِ اللّيْلِ فإِذا انْتصف اللّيْلُ فهُو وقْتٌ لِقِيامِ اللّيْلِ.
فِي الْحديث الصّحِيحِ: «ينْزِلُ ربُّنا جلّ وعلا كُلّ ليْلةٍ إلى السّماءِ الدُّنْيا إذا ذهب شطْرُ اللّيْلِ. فيقول: منْ يدْعُونِي فأسْتجِيب لهُ، منْ يسْألُنِي فأُعْطِيهُ، منْ يسْتغْفِرُنِي فأغْفِر لهُ، حتّى إذا ذهب ثُلُثُ اللّيْلِ فهُو أيْضا وقْتٌ لِلْقِيامِ»، لِقولهِ: «إذا بقِي ثُلُثُ اللّيْلِ ينْزِلُ ربُّنا إلى سماءِ الدُّنْيا» الْحديث.
وفِي الْحديث أيْضا خرّجهُ مُسْلِمٌ: «إذا ذهب ثُلُثُ اللّيْلِ الْأوّلُ ينْزِلُ ربُّنا إلى السّماءِ الدُّنْيا، فيقول: منْ يدْعُونِي فأسْتجِيب لهُ؟ منْ يسْألُنِي فأُعْطِيهُ؟ منْ يسْتغْفِرُنِي فأغْفِر لهُ؟» وعلى هذا التّرْتِيبِ جاء قوله تعالى: {قُمْ اللّيْل إلّا قلِيلا نِصْفهُ أوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قلِيلا} هُو إذا بقِي ثُلُثُ اللّيْلِ {أوْ زِدْ عليْهِ}: هُو إذا ذهب ثُلُثُ اللّيْلِ الْأوّلُ، وبِهذا التّرْتِيبِ انْتظم الْحديث والقرآن فإِنّهُما ينْظُرانِ مِنْ مِشْكاةٍ واحِدةٍ، حتّى إذا بقِي سُدُسُ اللّيْلِ كان محلّا لِلنّوْمِ، ففِي الْحديث الصّحِيحِ: أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم حثّ على سُننِ داوُد فِي صوْمِهِ وقِيامِهِ، فقال عليه السلام: «إنّ داوُد كان ينامُ نِصْف اللّيْلِ، ويقُومُ ثُلُثهُ، وينامُ سُدُسهُ، ثُمّ يطْلُعُ الْفجْرُ فتعُودُ الْحالةُ الْأُولى هكذا أبدا، ذلِك تقْدِيرُ الْعزِيزِ الْعلِيمِ، وتدْبِيرُ الْعلِيِّ الْحكِيمِ».
المسألة الْخامِسةُ:
قولهُ: {إلّا قلِيلا}: اسْتثْنى مِنْ اللّيْلِ كُلِّهِ {قلِيلا} وهذا اسْتِثْناءٌ على وجْهِ كلامِهِ فِيهِ، وهُو إحالةُ التّكْلِيفِ على مجْهُولٍ يُدْركُ عِلْمُهُ بِالِاجْتِهادِ؛ إذْ لوْ قال: إلّا ثُلُثهُ، أوْ رُبْعهُ، أوْ سُدُسهُ، لكان بيانا نصّا، فلمّا قال: {إلّا قلِيلا} وكان مُجْملا لا يُدْركُ إلّا بِالِاجْتِهادِ دلّ ذلِك على أنّ الْقِياس أصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشّرِيعةِ، ورُكْنٌ مِنْ أرْكانِ أدِلّةِ التّكْلِيفِ.
المسألة السّادِسةُ:
وهِي مِنْ الْآيةِ الثّانِيةِ قولهُ: {نِصْفهُ}.
ذكر عُلماءُ الْأُصُولِ أنّ قولهُ: {نِصْفهُ} دلِيلٌ على اسْتِثْناءِ الْأكْثرِ مِنْ الْجملة، وإِنّما يُفِيدُ اسْتِثْناء شيْءٍ فبقِي مِثْلُهُ، والْمطْلُوبُ اسْتِثْناءُ شيْءٍ مِنْ الْجملة فبقِي أقلُّ مِنْها تحْت اللّفْظِ الْمُتناوِلِ لِلْجمِيعِ، وهذا مبْنِيٌّ على أصْلٍ، وهُو أنّ قولهُ: {نِصْفهُ} بدلٌ مِنْ قولهِ: {اللّيْل}؛ كأنّ تقْدِير الْكلامِ قُمْ نِصْف اللّيْلِ أوْ اُنْقُصْ مِنْهُ أوْ زِدْ عليْهِ يسِيرا، ويُعضِّدُهُ حديث ابْنِ عبّاسٍ فِي الصّحِيحِ: بِتُّ عِنْد خالتِي ميْمُونة حتّى إذا انْتصف اللّيْلُ أوْ قبْلهُ بِقلِيلٍ أوْ بعْدهُ بِقلِيلٍ، اسْتيْقظ رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فقام إلى شنٍّ مُعلّقٍ، فتوضّأ وُضُوءا خفِيفا ذكر أوّل الْحديث وآخِرهُ.
وإِنْ كان قولهُ: {نِصْفهُ} بدلا مِنْ قولهِ: {قلِيلا} كان تقْدِيرُ الْكلامِ: قُمْ اللّيْل إلّا نِصْفهُ، أوْ أقلّ مِنْ نِصْفِهِ، أوْ أكْثر مِنْ نِصْفِهِ، ويكُونُ أيْضا اسْتِثْناءُ الْأكْثرِ مِنْ مُتناوِلِ الْجملة، وإِذا احْتمل الْوجْهيْنِ سقط الِاحْتِجاجُ بِهِ، لاسيما والْأوّلُ أظْهرُ.
وفِي الصّحِيحِ: أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم مرّ بِحبْلٍ مُعلّقٍ فِي الْمسْجِدِ، فسأل عنْهُ، فقِيل لهُ: فُلانةُ تُصلِّي لا تنامُ اللّيْل، فإِذا أُضْعِفتْ تعلّقتْ بِهِ؛ فقال النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكْلفُوا مِنْ الْعملِ ما تُطِيقُون، فإِنّ اللّه لا يملُّ حتّى تملُّوا».
وقدْ انْدرجتْ الْآيةُ الثّالِثةُ فِي هذِهِ الْأوْجُهِ، وهِي قولهُ: {أوْ زِدْ عليْهِ ورتِّلْ القرآن ترْتِيلا} قال أهْلُ اللُّغةِ: معْناهُ بيِّنٌ قراءته، تقول الْعربُ: ثغْرٌ رتِلٌ ورتلٌ بِفتْحِ الْعيْنِ وكسْرِها إذا كان مُفلّجا لا فضض فِيهِ.
قال مُجاهِدٌ: معْناهُ بعْضُهُ إثْر بعْضٍ.
وقال سعِيدُ بْنُ جُبيْرٍ: معْناهُ فسّرهُ تفْسِيرا، يُرِيدُ تفْسِير الْقراءة، حتّى لا يُسْرعُ فِيهِ فيمْتزِج بعْضُهُ بِبعْضٍ.
وقدْ روى الْحسنُ أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم مرّ بِرجُلٍ يقرأ آية ويبْكِي، فقال: ألمْ تسْمعُوا إلى قول الله تعالى: {ورتِّلْ القرآن ترْتِيلا}؛ هذا التّرْتِيلُ وسمِع رجُلٌ علْقمة يقرأ قراءة حسنة، فقال: رتِّلْ القرآن، فِداك أبِي وأُمِّي.
وقدْ روى أنسٌ أنّ قراءة النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كان يمُدُّ صوْتهُ مدّا.
وقدْ تقدّم تمامُ هذا.
الْآيةُ الرّابِعةُ قوله تعالى: {إنّا سنُلْقِي عليْك قولا ثقِيلا} فِيها قولانِ: أحدُهُما ثِقلُهُ على النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِين كان يُلْقِيهِ الْملكُ إليْهِ، وقدْ سُئِل كيْف يأْتِيك الْوحْيُ؟ فقال: «أحْيانا يأْتِينِي الْملكُ مِثْل صلْصلةِ الْجرسِ، وهُو أشدُّهُ عليّ، فيُفْصِمُ عنِّي، وقدْ وعيْت ما قال»
وقدْ كان ينْزِلُ عليْهِ الْوحْيُ فِي الْيوْمِ الشّدِيدِ الْبرْدِ فيتفصّدُ جبِينُهُ عرقا.
الثّانِي: ثِقلُ الْعملِ بِهِ؛ قالهُ الْحسنُ، وقتادةُ، وغيْرُهُما.
والْأوّلُ أوْلى؛ لِأنّهُ قدْ جاء: {وما جعل عليْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرجٍ} وجاء عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْت بِالْحنِيفِيّةِ السّمْحةِ».
وقدْ قِيل: أراد ثِقلهُ فِي الْمِيزانِ.
وقدْ رُوِي أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كان ينْزِلُ عليْهِ الْوحْيُ وهُو على ناقتِهِ، فتُلْقِي بِجِرانِها على الْأرْضِ، فلا يزالُ كذلِك حتّى يُسرِّي عنْهُ وهذا يُعضِّدُ ثِقل الْحقِيقةِ.
الْآيةُ الْخامِسةُ قوله تعالى: {إنّ ناشِئة اللّيْلِ هِي أشدُّ وطْئا وأقْومُ قِيلا} فِيها ثلاثُ مسائِل:
المسألة الْأُولى:
{ناشِئة اللّيْلِ}، فاعِلةٌ مِنْ قولك: نشأ ينْشأُ، فهُو ناشِئٌ، ونشأتْ تنْشأُ فهِي ناشِئةٌ ومِنْهُ قوله تعالى: {أومنْ يُنشّأُ فِي الْحِلْيةِ وهُو فِي الْخِصامِ غيْرُ مُبِينٍ} وقال الْعُلماءُ بِالْأثرِ: إذا نشأتْ بحْرِيّة، ثُمّ تشاءمتْ فتِلْك عيْنُ غُديْقة.
المسألة الثّانِيةُ:
اخْتلف الْعُلماءُ فِي تعْيِينِها على أقْوالٍ، جُمْلتُها قولانِ: أحدُهُما أنّها بيْن الْمغْرِبِ والْعِشاءِ، مِنْهُمْ ابْنُ عُمر، إشارة إلى أنّ لفْظ نشأ يُعْطِي الِابْتِداء، فهُو بِالْأوّلِيّةِ أحقُّ، ومِنْهُ قول الشّاعِرِ:
ولوْلا أنْ يُقال صبا نُصيْبٌ ** لقُلْت بِنفْسِي النّشأُ الصِّغارُ

الثّانِي: أنّهُ اللّيْلُ كُلُّهُ؛ قال ابْنُ عبّاسٍ: وهُو الّذِي اخْتارهُ مالِكُ بْنُ أنسٍ، وهُو الّذِي يُعْطِيهِ اللّفْظُ، وتقْتضِيهِ اللُّغةُ.
المسألة الثّالِثةُ:
قوله: {أشدُّ وطْئا}: قرئ بِفتْحِ الْواوِ وإِسْكانِ الطّاءِ فمِمّنْ قرأهُ كذلِك نافِعٌ، وابْنُ كثِيرٍ، والْكُوفِيُّون وقرئ بِكسْرِ الطّاءِ ممْدُودا، ومِمّنْ قرأهُ كذلِك أهْلُ الشّامِ وأبُو عمْرٍو فأمّا منْ قرأهُ بِفتْحِ الْواوِ وإِسْكانِ الطّاءِ فإِنّهُ أشار إلى ثِقلِهِ على النّفْسِ لِسُكُونِها إلى الرّاحةِ فِي اللّيْلِ وغلبةِ النّوْمِ فِيهِ على الْمرْءِ.
وأمّا منْ قرأهُ بِكسْرِ الْفاءِ وفتْحِ الْعيْنِ فإِنّهُ مِنْ الْمُواطأةِ وهِي الْمُوافقةُ؛ لِأنّهُ يتوافقُ فِيهِ السّمْعُ لِعدمِ الْأصْواتِ، والْبصرُ لِعدمِ الْمرْئِيّاتِ، والْقلْبُ لِفقْدِ الْخطراتِ.
قال مالِكٌ: أقْومُ قِيلا: هُدُوّا مِنْ الْقلْبِ وفراغا لهُ.
والْمعْنيانِ فِيهِ صحِيحانِ؛ لِأنّهُ يثْقُلُ على الْعبْدِ وأنّهُ الْمُوافِقُ لِلْقصْدِ.
الْآيةُ السّادِسةُ قوله تعالى: {إنّ لك فِي النّهارِ سبْحا طوِيلا} فِيهِ أرْبعُ مسائِل:
المسألة الْأُولى:
قال أهْلُ اللُّغةِ: معْناهُ اضْطِرابا ومعاشا وتصرُّفا، سبّح يُسبِّحُ: إذا تصرّف واضْطرب، ومِنْهُ سِباحةُ الْماءِ، ومِنْهُ قولهُ: {كُلٌّ فِي فلكٍ يسْبحُون} يُعْنى يجْرُون.
وقال: {والسّابِحاتِ سبْحا}؛ قِيل: الْملائِكةُ تُسبِّحُ بيْن السّماءِ والْأرْضِ، أيْ تجْرِي وقِيل: هِي السُّفُنُ: أرْواحُ الْمُؤْمِنِين تخْرُجُ بِسُهُولةٍ.
وقال أبُو الْعالِيةِ: معْناهُ فراغا طوِيلا؛ وساعدهُ عليْهِ غيْرُهُ.
فأمّا حقِيقةُ (س ب ح) فالتّصرُّفُ والِاضْطِرابُ؛ فأمّا الْفراغُ فإِنّما يعْنِي بِهِ تفرُّغهُ لِأشْغالِهِ وحوائِجِهِ عنْ وظائِف تترتّبُ عليْهِ؛ فأحدُ التّفْسِيريْنِ لفْظِيٌّ والْآخرُ معْنوِيٌّ.
المسألة الثّانِيةُ:
قرئ {سبْخا} بِالْخاءِ الْمُعْجمةِ، ومعْناهُ راحة وقِيل نوْما.
والتّسْبِيخُ: النّوْمُ الشّدِيدُ، يُقال سبّخ، أيْ نام بِالْخاءِ الْمُعْجمةِ، وسبّح بِالْحاءِ الْمُهْملةِ: أيْ تصرّف كما تقدّم.
وفِي الْحديث أنّهُ سمِع عائِشة تدْعُو على سارِقٍ، فقال: «لا تُسبِّخِي عنْهُ بِدُعائِك»، أيْ لا تُخفِّفِي عنْهُ، فإِنّ السّارِق أخذ مالها، وهِي أخذتْ مِنْ عِرْضِهِ، فإِذا وقعتْ الْمُقاصّةُ كان تخْفِيفا مِمّا لها عليْهِ مِنْ حقِّ السّرِقةِ.
ويُعضِّدُهُ قوله تعالى فِي الْأثرِ: «منْ دعا على منْ ظلمهُ فقدْ انْتصر» وهذِهِ إشارةٌ إلى أنّ اللّيْل عِوضُ النّهارِ، وكذلِك النّهارُ عِوضُ اللّيْلِ كما تقدّم فِي قوله تعالى: {وهُو الّذِي جعل اللّيْل والنّهار خِلْفة لِمنْ أراد أنْ يذّكّر أوْ أراد شُكُورا}
المسألة الثّالِثةُ:
فِي هذِهِ الْآيةِ تنْبِيهٌ على نوْمِ الْقائِلةِ الّذِي يسْترِيحُ بِهِ الْعبْدُ مِنْ قِيامِ اللّيْلِ فِي الصّلاةِ أوْ فِي الْعِلْمِ.
الْمسْألةُ الرّابِعةُ:
فِي حالِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذلِك: فقدْ كان يُصلِّي إحْدى عشْرة ركْعة، ورُوِي ثلاث عشْرة ركْعة، يُوتِرُ مِنْها بِخمْسٍ لا يجْلِسُ إلّا فِي آخِرِها.
ورُوِي أنّهُ كان يُصلِّي بعْد الْعِشاءِ ركْعتيْنِ، ويُصلِّي مِنْ اللّيْلِ تِسْعا مِنْها الْوِتْرُ، وكان ينامُ أوّل اللّيْلِ، ويُحْيِي آخِرهُ، وما ألْفاهُ السّحرُ إلّا عِنْد أهْلِهِ قائِما وكان يُوتِرُ فِي آخِرِ اللّيْلِ حتّى انتهى وِتْرُهُ إلى السّحرِ، وما قرأ القرآن كُلّهُ قطُّ فِي ليْلةٍ، ولا صلّى ليْلة إلى الصُّبْحِ، وكان إذا فاتهُ قِيامُ اللّيْلِ مِنْ وجعٍ أوْ غيْرِهِ صلّى مِنْ النّهارِ اثْنتيْ عشْرة ركْعة، وكان يقول: «الْوِتْرُ ركْعةٌ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ» ويقول: «أوْتِرُوا قبْل أنْ تُصْبِحُوا» وقال «صلاةُ آخِرِ اللّيْلِ مشْهُودةٌ» وذلِك أفْضلُ وهذا كُلُّهُ صحِيحٌ فِي الصّحِيحِ، وقدْ بيّنّا فِي شرْحِ الْحديث الْجمْع بيْن اخْتِلافِ الرِّواياتِ فِي عددِ صلاتِهِ، فإِنّهُ كان يُصلِّي إحْدى عشْرة ركْعة، وهِي كانتْ وظِيفتهُ الدّائِمة، وكان يفْتتِحُ صلاة اللّيْلِ بِركْعتيْنِ خفِيفتيْنِ، فهذِهِ ثلاث عشْرة ركْعة.
وكان يُصلِّي إذا طلع الْفجْرُ ركْعتيْنِ، ثُمّ يخْرُجُ إلى صلاةِ الصُّبْحِ، فهذا تأْوِيلُ قول منْ روى أنّهُ كان يُصلِّي خمْس عشْرة ركْعة.
وقدْ روتْ عائِشةُ فِي الصّحِيحِ أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّي تِسْع ركعاتٍ فِيها الْوِتْرُ ولعلّ ذلِك كان حِين ضعُف وأسنّ وحطّمهُ الْبأْسُ، أوْ كان لِألمٍ، واللّهُ أعْلمُ.
الْآيةُ السّابِعةُ قوله تعالى: {واذْكُرْ اسْم ربِّك وتبتّلْ إليْهِ تبْتِيلا} فِيها مسْألتانِ:
المسألة الْأُولى: فِي معْنى التّبتُّلِ:
وهُو عِنْد الْعربِ التّفرُّدُ؛ قالهُ ابْنُ عرفة. وقال غيْرُهُ وهُو الْأقْوى: هُو الْقطْعُ، يُقال: بتل إذا قطع، وتبتّل إذا كان الْقطْعُ فِي نفْسِهِ، فلِذلِك قالوا: إنّ معْنى الْآيةِ انْفرِدْ لِلّهِ، وصدقةٌ بتْلةٌ، أيْ مُنْقطِعةٌ مِنْ جمِيعِ الْمالِ.
وفِي حديث سعْدٍ: ردّ رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم على عُثْمان بْنِ مظْعُونٍ التّبتُّل ولوْ أذِن لهُ فِيهِ لاخْتصيْنا يعْنِي الِانْقِطاع عنْ النِّساءِ، وفِي الْأثرِ: لا رهْبانِيّة ولا تبتُّل فِي الْإِسْلامِ، ومِنْهُ مرْيمُ الْعذْراءُ الْبتُولُ، أيْ الّتِي انْقطعتْ عنْ الرِّجالِ، وتُسمّى فاطِمةُ بِنْتُ رسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْبتُول، لِانْقِطاعِها عنْ نِساءِ زمانِها فِي الْفضْلِ والدِّينِ والنّسبِ والْحسبِ.
وهذا قول أحْدثتْهُ الشِّيعةُ، وإِلّا فقدْ اخْتلف النّاسُ فِي التّفْضِيلِ بيْنها وبيْن عائِشة، وليْستْ مِنْ الْمسائِلِ الْمُهِمّةِ، وكِلْتاهُما مِنْ الدِّينِ والْجلالِ فِي الْغايةِ الْقُصْوى، وربُّك أعْلمُ بِمنْ هُو أفْضلُ وأعْلى.
وقدْ أشرْنا إليْهِ فِي كِتابِ الْمُشْكِليْنِ وشرْحِ الصّحِيحيْنِ.
المسألة الثّانِيةُ:
قدْ تقدّم فِي سُورةِ الْمائِدةِ تفْسِيرُ قوله تعالى: {يأيُّها الّذِين آمنُوا لا تُحرِّمُوا طيِّباتِ ما أحلّ اللّهُ لكُمْ} حالُ الدِّينِ فِي الْكراهِيةِ لِمنْ تبتّل فِيهِ، وانْقطع، وسلك سبِيل الرّهْبانِيّةِ بِما يُغْنِي عنْ إعادتِهِ، وأمّا الْيوْمُ وقدْ مرِجتْ عُهُودُ النّاسِ، وخفّتْ أماناتُهُمْ، واسْتوْلى الْحرامُ على الْحُطامِ، فالْعُزْلةُ خيْرٌ مِنْ الْخُلْطةِ، والْعُزْبةُ أفْضلُ مِنْ التّأهُّلِ، ولكِنّ معْنى الْآيةِ: انْقطع عنْ الْأوْثانِ والْأصْنامِ، وعنْ عِبادةِ غيْرِ اللّهِ؛ وكذلِك قال مُجاهِدٌ: معْناهُ أخْلِصْ لهُ الْعِبادة، ولمْ يُرِدْ انْقطِعْ عنْ النّاسِ والنِّساءِ وهُو اخْتِيارُ الْبُخارِيِّ لِأجْلِ ما رُوِي مِنْ نهْيِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عنْ التّبتُّلِ فصار التّبتُّلُ مأْمُورا بِهِ فِي القرآن، منْهِيّا عنْهُ فِي السُّنّةِ؛ ومُتعلِّقُ الْأمْرِ غيْرُ مُتعلِّقِ النّهْيِ؛ إذْ لا يتناقضانِ، وإِنّما بُعِث النّبِيُّ لِيُبيِّن لِلنّاسِ ما نُزِّل إليْهِمْ، فالتّبتُّلُ الْمأْمُورُ بِهِ الِانْقِطاعُ إلى اللّهِ بِإِخْلاصِ الْعِبادةِ، كما قال: {وما أُمِرُوا إلّا لِيعْبُدُوا اللّه مُخْلِصِين لهُ الدِّين} والتّبتُّلُ الْمنْهِيُّ عنْهُ هُو سُلُوكُ مسْلكِ النّصارى فِي ترْكِ النِّكاحِ والتّرهُّبُ فِي الصّوامِعِ، لكِنْ عِنْد فسادِ الزّمانِ يكُونُ خيْرُ مالِ الْمُسْلِمِ غنما يتْبعُ بِها شعف الْجِبالِ ومواقِع الْقطْرِ يفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتنِ.
الْآيةُ الثّامِنةُ قوله تعالى: {واصْبِرْ على ما يقولون واهْجُرْهُمْ هجْرا جمِيلا} فِيها مسْألتانِ:
المسألة الْأُولى:
هذِهِ الْآيةُ منْسُوخةٌ بِآيةِ الْقِتالِ، وكُلُّ منْسُوخٍ لا فائِدة لِمعْرِفةِ معْناهُ، لاسيما فِي هذا الْموْضِعِ إلّا على الْقول بِأنّ الْمرْء إذا غُلِب بِالْباطِلِ كان لهُ أنْ يفْعل ما فعلهُ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مع الْكُفّارِ حِين غلبُوهُ، وهِي:
المسألة الثّانِيةُ:
فأمّا الصّبْرُ على ما يقولون فمعْلُومٌ.
وأمّا الْهجْرُ الْجمِيلُ فهُو الّذِي لا فُحْش فِيهِ.
وقِيل: هُو السّلامُ عليْهِمْ.
وبِالْجملة فهُو مُجرّدُ الْإِعْراضِ.
الْآيةُ التّاسِعةُ قوله تعالى: {إنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثيْ اللّيْلِ ونِصْفهُ وثُلُثهُ وطائِفةٌ مِنْ الّذِين معك واللّهُ يُقدِّرُ اللّيْل والنّهار علِم أنْ لنْ تُحْصُوهُ فتاب عليْكُمْ فاقْرءُوا ما تيسّر مِنْ القرآن علِم أنْ سيكُونُ مِنْكُمْ مرْضى وآخرُون يضْرِبُون فِي الْأرْضِ يبْتغُون مِنْ فضْلِ اللّهِ وآخرُون يُقاتِلُون فِي سبِيلِ اللّهِ فاقْرءُوا ما تيسّر مِنْهُ وأقِيمُوا الصّلاة وآتُوا الزّكاة وأقْرِضُوا اللّه قرْضا حسنا وما تُقدِّمُوا لِأنْفُسِكُمْ مِنْ خيْرٍ تجِدُوهُ عِنْد اللّهِ هُو خيْرا وأعْظم أجْرا واسْتغْفِرُوا اللّه إنّ اللّه غفُورٌ رحِيمٌ}.
فِيها إحْدى عشْرة مسْألة:
المسألة الْأُولى:
قولهُ: {إنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدْنى} الْآية.
هذا تفْسِيرٌ لِقولهِ: {قُمْ اللّيْل إلّا قلِيلا نِصْفهُ أوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قلِيلا أوْ زِدْ عليْهِ} كما قدّمْنا.
{وطائِفةٌ مِنْ الّذِين معك}: رُوِي أنّهُ لمّا نزلتْ: {يأيُّها الْمُزّمِّلُ قُمْ اللّيْل إلّا قلِيلا} قامُوا حتّى تورّمتْ أقْدامُهُمْ، فخفّف اللّهُ عنْهُمْ.
هذا قول عائِشة، وابْنِ عبّاسٍ، لكِنّ عائِشة قالتْ: خفّف اللّهُ عنْهُمْ بِالصّلواتِ الْخمْسِ.
وقال ابْنُ عبّاسٍ: بِآخِرِ السُّورةِ، ونُبيِّنُهُ إنْ شاء اللّهُ.
المسألة الثّانِيةُ:
قولهُ: {واللّهُ يُقدِّرُ اللّيْل والنّهار}؛ يعْنِي يُقدِّرُهُ لِلْعِباداتِ؛ فإِنّ تقْدِير الْخِلْقةِ لا يتعلّقُ بِهِ حُكْمٌ، وإِنّما يرْبِطُ اللّهُ بِهِ ما شاء مِنْ وظائِفِ التّكْلِيفِ.
المسألة الثّالِثةُ:
قولهُ: {علِم أنْ لنْ تُحْصُوهُ} يعْنِي تُطِيقُوهُ.
اعْلمُوا وفّقكُمْ اللّهُ أنّ الْبارِئ تعالى وإِنْ كان لهُ أنْ يحْكُم فِي عِبادِهِ بِما شاء، ويُكلِّفهُمْ فوْق الطّوْقِ، فقدْ تفضّل بِأنْ أخْبر أنّهُ لا يفْعلُ.
وما لا يُطاقُ ينْقسِمُ قِسْميْنِ: أحدُهُما ألّا يُطاق جِنْسُهُ أيْ لا تتعلّقُ بِهِ قُدْرةٌ.
والثّانِي: أنّ الْقُدْرة لمْ تُخْلقْ لهُ، وإِنْ كان جِنْسُهُ مقْدُورا؛ كتكْلِيفِ الْقائِمِ الْقُعُود أوْ الْقاعِدِ الْقِيام؛ وهذا الضّرْبُ قدْ يُغلّبُ إذا تكرّر بِقِيامِ اللّيْلِ مِنْهُ، فإِنّهُ، وإِنْ كان مِمّا تتعلّقُ بِهِ الْقُدْرةُ، فإِنّهُ يُغلّبُ بِالتّكْرارِ والْمشقّةِ، كغلبةِ خمْسِين صلاةٍ لوْ كانتْ مفْرُوضة، كما أنّ الِاثْنيْنِ والْعِشْرِين ركْعة الْمُوظّفة كُلّ يوْمٍ مِنْ الْفرْضِ والسُّنّةِ تغْلِبُ الْخلْق، فلا يفْعلُونها، وإِنّما يقُومُ بِها الْفُحُولُ فِي الشّرِيعةِ.
المسألة الرّابِعةُ:
قولهُ: {فتاب عليْكُمْ}؛ أيْ رجع عليْكُمْ بِالْفراغِ الّذِي كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ تكْلِيفِها لكُمْ.
وهذا يدُلُّ على أنّ آخِر السُّورةِ هِي الّتِي نسختْها، كما روتْ عائِشةُ فِي الصّحِيحِ، كما نقلهُ الْمُفسِّرُون عنْها.
المسألة الْخامِسةُ:
قولهُ: {فاقْرءُوا ما تيسّر مِنْ القرآن}: فِيهِ قولانِ: أحدُهُما أنّ الْمُراد بِهِ نفْسُ الْقراءة.
الثّانِي: أنّ الْمُراد بِهِ الصّلاةُ، عبّر عنْها بِالْقراءة؛ لِأنّها فِيها، كما قال: {وقرآن الْفجْرِ إنّ قرآن الْفجْرِ كان مشْهُودا} وهُو الْأصحُّ؛ لِأنّهُ عنْ الصّلاةِ أخْبر، وإِليْها رجع الْقول.
المسألة السّادِسةُ:
قولهُ: {علِم أنْ سيكُونُ مِنْكُمْ مرْضى وآخرُون يضْرِبُون فِي الْأرْضِ يبْتغُون مِنْ فضْلِ اللّهِ وآخرُون يُقاتِلُون فِي سبِيلِ اللّهِ}: بيّن اللّهُ سبحانهُ عِلّة التّخْفِيفِ بِأنّ الْخلْق مِنْهُمْ الْمرِيضُ، ومِنْهُمْ الْمُسافِرُ فِي طلبِ الرِّزْقِ، ومِنْهُمْ الْغازِي، وهؤُلاءِ يشُقُّ عليْهِمْ الْقِيامُ؛ فخفّف اللّهُ عنْ الْكُلِّ لِأجْلِ هؤُلاءِ.
وقدْ بيّنّا حِكْمة الشّرِيعةِ فِي أمْثالِ هذا الْمقْصِدِ.
المسألة السّابِعةُ:
قولهُ: {فاقْرءُوا ما تيسّر مِنْهُ}: معْناهُ صلُّوا ما أمْكن؛ ولمْ يُفسِّرْهُ.
ولِهذا قال قوْمٌ: إنّ فرْض قِيامِ اللّيْلِ بقِي فِي ركْعتيْنِ مِنْ هذِهِ الْآيةِ؛ قالهُ الْبُخارِيُّ، وغيْرُهُ، وعقد باب: «يعْقِدُ الشّيْطانُ على قافِيةِ الرّأْسِ إذا لمْ يُصلِّ بِاللّيْلِ» وذكر فِي حديث آخر: «يعْقِدُ قافِية رأْسِ أحدِكُمْ ثلاث عُقدٍ يضْرِبُ مكان كُلِّ عُقْدةٍ عليْك ليْلٌ طوِيلٌ فارْقُدْ، فإِنْ اسْتيْقظ فذكر اللّه تعالى انْحلّتْ عُقْدةٌ، فإِنْ توضّأ انْحلّتْ عُقْدةٌ، فإِنْ صلّى انْحلّتْ عُقْدةٌ؛ فأصْبح نشِيطا طيِّب النّفْسِ؛ وإِلّا أصْبح خبِيث النّفْسِ كسْلان».
وذكر حديث سمُرة بْنِ جُنْدُبٍ، عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الرُّؤْيا: قال: «أمّا الّذِي يُثْلغُ رأْسُهُ بِالْحجرِ، فإِنّهُ الّذِي يأْخُذُ القرآن فيرْفُضُهُ وينامُ عنْ الصّلاةِ الْمكْتُوبةِ»، وحديث عبْدِ اللّهِ بْنِ مسْعُودٍ قال: ذُكِر عِنْد النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رجُلٌ نام اللّيْل إلى الصّباحِ؛ فقال: ذاك رجُلٌ بال الشّيْطانُ فِي أُذُنِهِ.
وهذِهِ كُلُّها أحادِيثُ مُقْتضِيةٌ حمْل مُطْلقِ الصّلاةِ على الْمكْتُوبةِ، فيُحْملُ الْمُطْلقُ على الْمُقيّدِ، لِاحْتِمالِهِ لهُ، وتسْقُطُ الدّعْوى مِمّنْ عيّنهُ لِقِيامِ اللّيْلِ.
وفِي الصّحِيحِ واللّفْظُ لِلْبُخارِيِّ: قال عبْدُ اللّهِ بْنُ عُمر: قال لِي رسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «يا عبْد اللّهِ، لا تكُنْ مِثْل فُلانٍ؛ كان يقُومُ اللّيْل فترك قِيام اللّيْلِ».
ولوْ كان فرْضا ما أقرّهُ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ولا أخْبر بِمِثْلِ هذا الْخبرِ عنْهُ، بلْ كان يذُمُّهُ غاية الذّمِّ.
وفِي الصّحِيحِ عنْ عبْدِ اللّهِ بْنِ عُمر قال: «كان الرّجُلُ فِي حياةِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذا رأى رُؤْيا قصّها على النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فتمنّيْت أنْ أرى رُؤْيا فأقُصُّها على النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وكُنْت غُلاما عزبا شابّا، وكُنْت أنامُ فِي الْمسْجِدِ على عهْدِ رسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فرأيْت فِي النّوْمِ كأنّ ملكيْنِ أخذانِي، فذهبا بِي إلى النّارِ، فإِذا هِي مطْوِيّةٌ كطيِّ الْبِئْرِ، وإِذا لها قرْنانِ، وإِذا فِيها ناسٌ قدْ عرفْتهمْ، فجعلْت أقول: أعُوذُ بِاللّهِ مِنْ النّارِ.
قال: ولقِينا ملكٌ آخرُ، فقال لِي: لمْ تُرعْ؛ فقصصْتها على حفْصة، فقصّتْها حفْصةُ على رسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: نِعْم الرّجُلُ عبْدُ اللّهِ، لوْ كان يُصلِّي مِنْ اللّيْلِ.
فكان بعْدُ لا ينامُ مِنْ اللّيْلِ إلّا قلِيلا»
، ولوْ كان ترْكُ الْقِيامِ معْصِية لما قال لهُ الْملكُ: لمْ تُرعْ واللّهُ أعْلمُ.
المسألة الثّامِنةُ:
تعلّق كثِيرٌ مِنْ الْفُقهاءِ فِي تعْيِينِ الْقراءة فِي الصّلاةِ بِهذِهِ الْآيةِ، وهِي قولهُ: {فاقْرءُوا ما تيسّر مِنْهُ} فقال قوْمٌ: هِي آيةٌ.
وقال قوْمٌ: هِي ثلاثُ آياتٍ؛ لِأنّها أقلُّ سُورةٍ، وبِهِ قال أبُو حنِيفة.
وقدْ بيّنّا أنّ الْمُراد بِالْقراءة هاهُنا الصّلاةُ؛ وإِنّما يصِحُّ هذا التّقْدِيرُ، ويُتصوّرُ الْخِلافُ فِي قول النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلرّجُلِ الّذِي علّمهُ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصّلاة، وقال لهُ: «ارْجِعْ فصلِّ؛ فإِنّك لمْ تُصلِّ».
وقال لهُ: «اقرأ فاتِحة الْكِتابِ، وما تيسّر معك مِنْ القرآن» وقدْ تكلّمْنا عليْهِ فِي مسائِلِ الْخِلافِ بِما فِيهِ كِفايةٌ لِبابِهِ لِأنّا لوْ قُلْنا: إنّ الْمُراد بِهِ الْقراءة لكان النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قدْ عيّن هذا الْمُبْهم بِقولهِ: «لا صلاة إلّا بِفاتِحةِ الْكِتابِ». خرّجهُ الشّيْخانِ.
وكان النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يقْرؤُها فِي كُلِّ ركْعةٍ، فقدْ اعْتضد الْقول والْفِعْلُ.
جوابٌ آخرُ وذلِك أنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم إنّما قصد واللّهُ أعْلمُ التّخْفِيف عنْ الرّجُلِ، فقال لهُ: «اقرأ ما تيسّر معك مِنْ القرآن» أيْ ما حفِظْت.
وقدْ ظنّ الْقاضِي أبُو زيْدٍ الدّبُوسِيُّ فحْلُ الْحنفِيّةِ الْأهْدرُ ومُناضِلُها الْأقْدرُ أنّ قولهُ: {فاقْرءُوا ما تيسّر مِنْهُ} مع زِيادةِ الْفاتِحةِ عليْهِ زِيادة على النّصِّ، والزِّيادةُ على النّصِّ نسْخٌ، ونسْخُ القرآن لا يجُوزُ إلّا بِقرآن مِثْلِهِ، أوْ بِخبرٍ مُتواتِرٍ على الْوجْهِ الّذِي تمهّد فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وأجاب عُلماؤُنا بِأنّ الزِّيادة على النّصِّ لا تكُونُ نسْخا، وقدْ قررْناهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وهُو مذْهبٌ ضعِيفٌ جِدّا.
قال الْقاضِي أبُو زيْدٍ الدّبُوسِيُّ: الصّلاةُ تثْبُتُ بِالتّواتُرِ، فأرْكانُها يجِبُ أنْ تثْبُت بِمِثْلِهِ، فنأْمُرُهُ بِقراءة فاتِحةِ الْكِتابِ، لِخبرِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولا يُعِيدُ الصّلاة بِترْكِها، لِئلّا تثْبُت الْأرْكانُ بِما لمْ يثْبُتْ بِهِ الْأصْلُ.
قُلْنا: هذا باطِلٌ ليْس عليْهِ دلِيلٌ، وإِنّما هُو مُجرّدُ دعْوى.
وقدْ اتّفقْنا على ثُبُوتِ أرْكانِ الْبيْعِ بِخبرِ الْواحِدِ، وبِالْقِياسِ؛ وأصْلُ الْبيْعِ ثابِتٌ بِالقرآن، وهذا بعْضُ ما قرّرْناهُ فِي مسائِلِ الْخِلافِ، فلْيُنْظرْ ما بقِي مِنْ الْقول هُنالِك إنْ شاء اللّهُ تعالى.
المسألة التّاسِعةُ:
قولهُ: {وأقِيمُوا الصّلاة}.
المسألة الْعاشِرةُ:
قولهُ: {وآتُوا الزّكاة} وقدْ تقدّم بيانُهُما.
المسألة الْحادِية عشْرة:
قولهُ: {وأقْرِضُوا اللّه قرْضا حسنا} وقدْ تقدّم ذلِك فِي سُورةِ الْبقرةِ. اهـ.